سورة الإسراء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} قاطبةً تكريماً شاملاً لبَرّهم وفاجرِهم أي كرمناهم بالصورة والقامةِ المعتدلةِ والتسلط على ما في الأرض والتمنُّعِ به والتمكُّنِ من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نِطاقُ العبارة، ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كلَّ حيوانٍ يتناول طعامَه بفيه إلا الإنسانَ فإنه يرفعه إليه بيده، وما قيل من شِرْكة القرد له في ذلك مبنيٌّ على عدم الفرقِ بين اليد والرجل فإنه متناولٌ له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده {وحملناهم فِى البر والبحر} على الدوابّ والسفن، من حملْتَه إذا جعلتَ له ما يركبه وليس من المخلوقات شيءٌ كذلك، وقيل: حملناهم فيهما حيث لم نخسِفْ بهم الأرضَ ولم نُغرِقْهم بالماء، وأنت خبيرٌ بأن الأول هو الأنسبُ بالتكريم إذ جميعُ الحيواناتِ كذلك {وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات} أي فنون النعمِ وضُروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صُنعِهم.
{وفضلناهم} في العلوم والإدراكاتِ بما ركّبنا فيهم من القُوى المدرِكةِ التي بها يتميز الحقُّ من الباطل والحسَنُ من القبيح {على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا} وهم من عدا الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام {تَفْضِيلاً} عظيماً فحق عليهم أن يشكروا هذه النعمَ ولا يكفروها ويستعملوا قُواهم في تحصيل العقائدِ الحقّةِ ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحدٌ ممن له أدنى تمييزٍ فضلاً عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقولُ المحضةُ، وإنما استُثنيَ جنسُ الملائكة من هذا التفضيلِ لأن علومَهم دائمةٌ عاريةٌ عن الخطأ والخلل، وليس فيه دَلالةٌ على أفضليتهم بالمعنى المتنازَعِ فيه فإن المراد هنا بيانُ التفضيل في أمر مشتركٍ بين جميع أفرادِ البشر صالحِها وطالحِها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضلَ في عِظم الدرجةِ وزيادةِ القُربةِ عند الله سبحانه. إن قيل: أيُّ حاجةٍ إلى تعيين ما فيه التفضيلُ بعد بيانِ ما هو المرادُ بالمفضّلين فإن استثناءَ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفرادِ البشرِ عليهم لا يستلزم استثناءَهم من تفضيل بعضِ أفرادِه عليهم قلنا: لا بد من تعيينه البتةَ، إذ ليس من الأفراد الفاجرةِ للبشر أحدٌ يفضُل على أحد من المخلوقات فيما هو المتنازَعُ فيه أصلاً بل هم أدنى من كل دنيءٍ حسبما يُنبىء عنه قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} وقولُه تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} {يَوْمَ نَدْعُواْ} نُصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرفٌ لما دل عليه قولُه تعالى: {وَلاَ يُظْلَمُونَ} وقرئ بالياء على البناء للفاعل والمفعول ويدعو بقلب الألف واواً على لغة من يقول في أفعى أفعو، وقد جوّز كونُ الواو علامةَ الجمعِ كما في قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى} أو ضميرَه وكلَّ بدلاً منه، والنونُ محذوفةٌ لقلة المبالاةِ بها فإنها ليست إلا علامةَ الرفع وقد يكتفى بتقديره كما في يدعى {كُلَّ أُنَاسٍ} من بني آدم الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيلِ، وهذا شروعٌ في بيان تفاوتِ أحوالِهم في الآخرة بحسب أحوالِهم وأعمالهم في الدنيا {بإمامهم} أي بمن ائتمّوا به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين وقيل: بكتاب أعمالِهم التي قدموها فيقال: يا أصحابَ كتابِ الخيرِ يا أصحابَ كتابِ الشر، أو يا أهلَ دينِ كذا يا أهلَ كتابِ كذا، وقيل: الإمامُ جمعُ أم كُخف وخِفاف، والحكمةُ في دعوتهم بأمهاتهم إجلالُ عيسى عليه السلام وتشريفُ الحسنين رضي الله عنهما والسترُ على أولاد الزنا {فَمَنْ أُوتِىَ} يومئذ من ألئك المدعوّين {كتابه} صحيفةَ أعماله {بِيَمِينِهِ} إبانةٌ لخطر الكتابِ المؤتى وتشريفاً لصاحبه وتبشيراً له من أول الأمرِ بما في مطاويه {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى مَنْ باعتبار معناه إيذاناً بأنهم حزبٌ مجتمعون على شأن جليلٍ، أو إشعاراً بأن قراءتَهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماعِ لا على وجه الانفرادِ كما في حال الإيتاءِ، وما فيه من الدِلالة على البعد للإشعار برفعة درجاتِهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامةِ التي يُشعِر بها الإيتاءُ المزبور {يَقْرَءونَ كتابهم} الذي أوتوه على الوجه المبين تبجّحاً بما سُطّر فيه من الحسنات المستتبِعةِ لفنون الكراماتِ {وَلاَ يُظْلَمُونَ} أي لا يُنقصون من أجور أعمالِهم المرتسمةِ في كتبهم بل يؤتَوْنها مضاعَفةً {فَتِيلاً} أي قدْرَ فتيلٍ وهو القِشرةُ التي في شق النواة أو أدنى شيءٍ فإن الفتيلَ مثلٌ في القِلة والحقارة.


{وَمَن كَانَ} من المدعوّين المذكورين {فِى هذه} الدنيا التي فُعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريمِ والتفضيل {أعمى} فاقدَ البصيرة لا يهتدي إلى رُشده ولا يعرِف ما أوليناه من نعمة التكْرِمةِ والتفضيلِ فضلاً عن شكرها والقيامِ بحقوقها، ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقُوى فيما خُلِقْن له من العلوم والمعارِف الحَقّة {فَهُوَ فِى الأخرة} التي عُبّر عنها بيومَ ندعو {أعمى} كذلك أي لا يهتدي إلى ما ينجيّه ولا يظفَر بما يُجديه لأن العمَى الأولَ موجبٌ للثاني، وقد جُوّز كونُ الثاني بمعنى التفضيل على أن عماه في الدنيا، ولذلك قرأ أبو عمرو الأولَ مُمالاً والثاني مفخماً {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} أي من الأعمى لزوال الاستعدادِ المُمْكنِ وتعطلِ الآلاتِ بالكلية، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابَه بشماله بدِلالة حال ما سبق من الفريق القابلِ له، ولعل العدولَ عن ذكره بذلك العنوانِ مع أنه الذي يستدعيه حسنُ المقابلة حسبما هو الواقعُ في سورة الحاقة وسورةِ الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبةِ له كما في قوله تعالى: {وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين} بعد قوله تعالى: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ اليمين} وللرمز إلى علة حالِ الفريقِ الأول، وقد ذكر في أحد الجانبين المسبّبُ وفي الآخر السببُ، ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلاً على شهادة العقلِ كما في قوله عز وعلا: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} نزلت في ثقيفٍ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ندخُل في أمرك حتى تعطيَنا خِصالاً نفتخر بها على العرب لا نُعشر ولا نُحشر ولا نجبى في صلاتنا، وكلُّ رِباً لنا فهو لنا وكلُّ رباً علينا فهو موضوعٌ عنا، وأن تُمتّعنا باللات سنةً وأن تحرِّم واديَنا وَجّ كما حرّمت مكة، فإذا قالت العربُ: لم فعلتَ؟ فقل: إن الله أمرني بذلك، وقيل: في قريش حيث قالوا: اجعل لنا آيةَ عذابٍ آيةَ رحمةٍ وآيةَ رحمةٍ آيةَ عذابٍ، أو قالوا: لا نُمكّنك من استلام الحجرِ حتى تُلمّ بآلهتنا، فإنْ مخففةٌ من المشددة وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ واللامُ هي الفارقة بينها وبين النافية، أي إن الشأنَ قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين {عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} من أوامرنا ونواهينا ووعْدِنا ووعيدِنا {لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} لتتقول علينا غيرَ الذي أوحينا إليك مما اقترحَتْه ثقيفٌ أو قريشٌ حسبما نقل {وَأَذّاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي لو اتبعت أهواءَهم لكنتَ لهم وليًّا ولخرجتَ من ولايتي.


{وَلَوْلاَ أَن ثبتناك} على ما أنت عليه من الحق بعِصمتنا لك {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} من الركون الذي هو أدنى ميلٍ أي لولا تثبيتنا لك لقاربت أن تميلَ إليهم شيئاً يسيراً من الميل اليسيرِ لقوة خَدعِهم وشدة احتيالِهم، لكن أدركتْك العصمةُ فمنعَتْك من أن تقرَبَ من أدنى مراتبِ الركونِ إليهم فضلاً عن نفس الركونِ، وهذا صريحٌ في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي إليها، ودليلٌ على أن العصمةَ بتوفيق الله تعالى وعنايتِه.
{أَذِاً} لو قاربت أن تركنَ إليهم أدنى رَكْنة {إِذًا لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ} أي عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة ضعفَ ما يُعذَّب به في الدارين بمثل هذا الفعلِ غيرُك لأن خطأَ الخطيرِ خطيرٌ، وكان أصلُ الكلامِ عذاباً ضِعفاً في الممات بمعنى مضاعفاً ثم حُذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه ثم أضيفت إضافةَ موصوفِها، وقيل: الضِعف من أسماء العذاب، وقيل: المرادُ بضِعف الحياة عذابُ الآخرة وبضِعف المماتِ عذابُ القبر {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} يدفع عنك العذابَ.
{وَإِن كَادُواْ} الكلامُ فيه كما في الأول أي كاد أهلُ مكة {لَيَسْتَفِزُّونَكَ} أي ليُزعِجونك بعداوتهم ومكرِهم {مّنَ الأرض} أي الأرضِ التي أنت فيها وهي أرضُ مكة {لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَأَذّاً لاَّ يَلْبَثُونَ} بالرفع عطفاً على خبر كاد، وقرئ: {لا يلبثوا} بالنصب بإعمال إذن على أن الجملةَ معطوفةٌ على جملة وإن كادوا ليستفزونك {خلافك} أي بعدك قال:
خلت الديارُ خِلافَهم فكأنما *** بسَطَ الشواطِبُ بينهن حصيراً
أي لو خرجتَ لا يبقَون بعد خروجِك وقرئ: {خلفك} {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا زماناً قليلاً وقد كان كذلك فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرتِه عليه الصلاة والسلام، وقيل: نزلت الآيةُ في اليهود حيث حسدوا مقامَ النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة، فقالوا: الشامُ مقامُ الأنبياءِ عليهم السلام فإن كنت نبياً فالحَقْ بها حتى نؤمِنَ بك، فوقع ذلك في قلبه عليه الصلاة والسلام فخرج مرحلةً فنزلت فرجع ثم قُتل منهم بنو قريظة وأُجليَ بنو النضير (بعدهم) بقليل.
{سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا} نُصب على المصدرية أي سنّ الله تعالى سُنةً وهي أن يُهلك كلَّ أمة أَخرجت رسولَهم من بين أظهرِهم، فالسنةُ لله تعالى وإضافتُها إلى الرسل لأنها سُنّتْ لأجلهم على ما ينطِق به قوله عز وجل: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي تغيّراً.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14